lundi 11 juillet 2016

التهريب...... و وهم التنمية

المادة الشخمة، كلمة اشتهر بها رئيس تونس الراحل الحبيب بورقيبة، و قد قالها في سياق خطاب قال فيه أن تونس لا توجد فيها ثروات و ثروتها الوحيدة هي "المادة الشخمة" و المقصود بهذه المادة هو "المخ" و بالتالي الذكاء، فأوهم التونسيين أن البلاد فقيرة من حيث الموارد الطبيعية و تملك فقط الذكاء، و هذا الخطاب ظل متوارثا بين السياسيين الذين يحكمون البلاد إلى أن جاءت الثورة و أثبتت أن التونسي لا يختلف عن باقي البشر في العالم و له مشاكله و سلبياته، و أن تونس فيها ثروات لم يتم استغلالها على الوجه الأمثل لتطوير البلاد و لتحسين ظروف عيش الناس فيها، انما أهدرت هذه الثروات بسبب الفساد، و ليس وحده الفساد سببا إنما أيضا التفاوت بين الجهات في التنمية ، خاصة و أن الجهات التونسية الأقل حظا في التنمية هي التي تتوفر  فيها أهم ثروات البلاد، و الحديث في هذا الشأن يتطلب أولا تبيان ملامح جغرافيا البلاد التونسية ثم التعرف على الإمكانيات الإقتصادية و الخصوصيات الثقافية لكل منطقة،
اداريا تنقسم البلاد التونسية إلى خمسة و عشرين ولاية أو محافظة، تم تقسيمها منذ إستقلال البلاد سنة 1956 و بعضها تم اضافتها فيما بعد، و على ضوء ذلك التقسيم شرعت السلطة المشرفة في بعث عدة استثمارات عمومية مثل المطارات و الموانئ  و الكليات و المصانع و الملاعب و قاعات الرياضة و حتى المسارح و دور الثقافة، اضافة إلى النزل و المرافق السياحية التي كانت منشآت شبه عمومية بحكم أن أغلبها تم بنائها بقروض ميسرة من بنوك عمومية لفائدة رجال أعمال قريبين من السلطة، التي كانت تحت نفوذ رؤوس أموال و سياسيين ينتمون إلى الجهات الأكثر انتفاعا بهذه الإستثمارات و هي الجهات المتعارف عليها في تونس بالجهات الساحلية، لكن هي فقط الولايات المتمركزة على جزء من الساحل الشرقي للبلاد، و لعل من أهمها ولاية المنستير التي رغم صغر مساحتها فقد تمتعت بأهم المنشآت العمومية في البلاد مثل كلية الطب و الهندسة و الصيدلة و المطار و مستشفى جامعي اضافة إلى المصانع  و الفنادق و الطرقات السريعة، و قد نالت هذه الولاية حظها أكثر من غيرها نظرا لإنتماء رئيس البلاد آنذاك لنفس الولاية و هذا إن دل على شيء فهو يدل على منطق قبلي و عقلية جهوية غرسها و نماها الرئيس الراحل بورقيبة  و لازالت آثارها قائمة إلى اليوم، و هي عقلية تهدد وحدة البلاد و لازالت تطل برأسها أحيانا من خلال جماهير الكرة أو بعض مغنيي الراب ، أما الولايات التي ظلت محرومة من التنمية إلى يومنا هذا هي الولايات المتعارف على تسميتها بالولايات الداخلية  و أغلبها ولايات حدودية متاخمة للجزائر، أو ولايتي تطاوين و مدنين في أقصى جنوب البلاد  على الحدود مع ليبيا، رغم محاولات نظام بن علي منذ التسعينات لسد الهوة بين المناطق الساحلية و المناطق الداخلية من خلال بعث اذاعات جهوية و مؤسسات جامعية في الولايات الداخلية فإن هذه المحاولات قد أحبطها الحجم الكبير للفساد في تلك المناطق، و رغبة أصحاب النفوذ فيها في ابقاء الحال على ماهو عليه كي يسهل عليهم ابتزاز الناس من أجل منافع بسيطة كالمساعدات الموسمية من مواد غذائية و علف للحيوانات و المواشي، وهو أسلوب سيطر به المنتمون لحزب التجمع المنحل على سكان الأرياف الفقراء، و نجحوا في ذلك، و حزب التجمع في الولايات الداخلية خاصة قد حكم الناس بشبكة منافع خارج اطار القانون، تبدأ بمساعدة بسيطة من مواد غذائية أو علف للمواشي، و تصل إلى حد تشغيل الإبن أو الابنة في الوظيفة العمومية، و بحكم وجود هذه الولايات على الحدود كان التهريب من أهم المنافع الخارجة عن القانون، التي سيطرت بها بارونات التهريب على سكان المناطق الحدودية، و التي لا تزال إلى حد الآن أرياف بدائية، تفتقر إلى أهم مرافق العيش الكريم، و قد غالط الإعلام في تونس الناس و أوهمهم أن سكان الحدود هم من أثرى أثرياء البلاد، و أنهم لا يريدون مصانع و منشآت يعملون فيها بأجر، و ظل التهريب وهم التنمية، لكن في الواقع ليس جميع الناس يمارسون التهريب، بل هي فئة قليلة لها علاقات خاصة و لها مسالك مؤمنة ، و يوزعون البنزين و العجلات و الحديد جهارا نهارا على الطرقات، اضافة إلى المواد الكهرمنزلية، صحيح أنهم يحققون أرباحا طائلة لكنها أموال يديرونها بينهم، و حتى من يحقق ثروة سيبني بها منزلا فخما في المناطق السياحية الكبرى، و في أحسن الحالات سيبني مقهى في القرية التي يسكنها، و لا يمكن لأحد أن يجبره على بناء معمل أو الإستثمار في مشروع زراعي ينمي اقتصاد المنطقة، و من المغالطات أيضا التي يقوم يروجها الإعلام هو الخلط المتعمد بين التهريب و التجار الذين يعبرون الحدود عبر مسالك قانونية و هؤلاء يسمح لهم القانون حسب "الأمر 1743 لسنة 1994 المؤرخ في 29 أوت1994 " بتوريد بعض البضائع المخصصة للاستهلاك و طبعا حسبما يسمح به القانون من حيث الكم و الكيف، و بالتالي هؤلاء تجار يجب تشجيعهم و مساعدتهم و هذا يجرنا للحديث عن أزمة الحدود بين الدول العربية و هي للأسف إما حدود مسيجة بالأسلاك الشائكة أو حدود مدججة بالأسلحة، على خلاف الحدود بين الدول الأوروبية التي هي عبارة عن أسواق حرة و مناطق ترفيه حيث أصبحت مقاطعة "سارلاند" المتنازع عليها بين فرنسا و ألمانيا إلى منطقة تبادل حر و تعاون اقتصادي بين البلدين, و بالتالي أصبح وجود مدينة ما على الحدود في صالحها حيث تتحول إلى قطب تجاري و تنموي جالب لليد العاملة و تتوفر فيه مواطن شغل قارة، و هذا ما ينقص المناطق الحدودية التونسية التي تتميز باستفحال البطالة,
على السلطة في البلاد أن تنتبه لهذا التفاوت الجهوي و أن تنتبه أيضا إلى أن الولايات الداخلية فيها أهم الثروات مثل الفسفاط و الرخام و المنتوجات الزراعية فقط يجب تثمينها، و يجب بعث مشاريع استثمارية لأن الناس و خاصة الشباب يبحثون عن مواطن شغل قارة تشعرهم أنهم مواطنين، فالتهريب مهما وفر من أموال فهو خارج اطار القانون أولا و ثانيا ليس في متناول الجميع بل و يزيد في تنمية الفوارق الإجتماعية و القهر الإجتماعي بين الناس و يؤثر سلبا على عقلية السشباب و التلاميذ و هذا قد بدا واضحا وجليا من خلال نتائج الباكالوريا لهذا العام، حيث كانت أقل النتائج في الولايات الحدودية فالتلميذ الذي ينبهر بسهولة الثروة المتأتية من التهريب سوف يشعر أن الدراسة بلا فائدة، الناس في حاجة إلى طرقات لائقة و معاهد لائقة و مستشفيات لائقة، و منشآت رياضية لائقة، و على ذكر المنشآت الرياضية، في ولايات نابل و المهدية و سوسة و المنستير و صفاقس، كل مدينة صغيرة فيها قاعة رياضية مغطاة بينما، الولايات الحدودية في كل منها قاعة واحدة في مركز الولاية.
صحيح أن الدولة كاهلها مثقل بالإنفاق العمومي، و بمشاكل عدة لكن المطلوب منها هو أن تقدم نفس الخدمات بالتساوي بين الناس و أن تسعى من خلال مؤسساتها على التمييز الإيجابي للمناطق الداخلية التي عانت الحرمان طوال عقود و هذا منصوص عليه في دستور البلاد، و مقاومة التهريب لا تكون بمراقبة الحدود فقط إنما باتفاقيات اقتصادية مع البلدان المجاورة حتى يكون الفارق بين السلع طفيفا، و العمل على توفير مواطن الشغل لأن سكان الولايات الداخلية الذين يتهمهم الإعلام بالكسل هم من يعملون في المصانع الموجودة بالآلاف في الولايات الساحلية و العاصمة، و يتكبدون عناء السفر و الكراء بأسعار مرتفعة هناك، و بكل واقعية و بعيدا عن الشعارات الجوفاء وحدة البلاد تكون بتكافؤ الفرص بين الناس، بصفتهم مواطنين لهم حقوق و عليهم واجبات، و ليس بخطاب "المادة الشخمة" التافه و المتعال

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire