dimanche 23 mai 2010

في ضيافة الصيف












أفقت من النوم على وقع خطوات أمي التي أفاقت قبلي كعادتها ببعض سويعات لتقوم بأعمالها اليومية، وقد أفقت مـتأخر لأني كنت متعبا بسبب السفر حيث وصلت بعد منتصف الليل بعد رحلة طويلة على متن الحافلة القادمة من الجنوب، و من المؤكد أنها هي الوحيدة التي أحست بوجودي في البيت. فتحت عيني خلسة كي أرى ما يدور حولي فلم أر غير أمي مقبلة من المطبخ تحمل ما أحضرته من طعام و تعمدت فتح التلفاز كي تجبرني على الاستفاقة من النوم الصباحي الذي تعتبره عادة سيئة ، وكعادتي كنت عند حسن ظنها إذ قمت بترتيب فراشي و هيأت نفسي للخروج . و بعدما التهمت تلك المأكولات بنهم ، تناولت الهاتف و اتصلت بصديق لي يدعى جهاد كي أسأل عن أحواله فهو رفيق دربي منذ أيام الدراسة ،و طلبت منه أن نلتقي في المقهى فقال لي بأنه يعمل في "الحصيدة" و" الحصيدة " في لهجتنا تعني حقول القمح و الشعير أيام الحصاد،و في تلك الأثناء كانت أمي تسمع المكالمة و قد فهمت أني أرغب في الخروج فقالت:
- هذا أول أيام عطلتك لماذا لا تبقى معنا اليوم ؟ ستخرج في الأيام القادمة.
قلت لها أن تتركني أستغل هذه العطلة لأنه أول مرة منذ ثلاث سنوات أتحصل على إجازة في الصيف، فعملي لم يترك لي وقت للترفيه. فأجابتني بحنانها المعهود معاتبة إياي و طالبة مني أن أحمد الله و قالت:
- أنت نلت فرصة عمل و مهما كان هذا العمل متعبا فهو مورد رزقك و الإجازات و العطل لن تنفعك، يا بني أنت محظوظ بين المتخرجين الذين لم يحصلوا على شغل فالناس تدفع الملايين من أجل وظيفة.
قبلتها ثم خرجت من البيت مسرعا إلى أن وجدت نفسي في مكان مشرف على منظر رائع و مهيب إنه منظر الحقول الشاسعة التي اكتست بلون ذهبي زادته أشعة الشمس توهجا و هيبة كما أضفى عليه تدفق تلك الوفود من البشر و الحيوانات أجواء احتفالية بقدوم موسم الجني و الحصاد، لفحتني نسمة صيف ناعمة و هادئة، أحسست معها أنني في حلم فأغمضت عيني للحظة رأيت فيها صورا متراكمة للكثبان الرملية و النخيل و الواحات الجبلية و الإبل و النباتات الصحراوية فاستنشقت نفسا طويلا بدأت تتلاشى معه تلك الصور شيئا فشيئا إلى أن غابت تماما، فتحت عيني وقتها لأعرف أن ما أعيشه هو الحقيقة ، و أنني هنا في قريتي الحالمة و على أرض لها سحرها الخاص الذي يختلف عما كنت أعيشه أيام العمل في ربوع الجنوب الساحرة. توجهت مباشرة إلى المكان الذي يعمل فيه جهاد وفي طريقي إلى تلك الحقول كانت الأجواء رائعة و المناظر ساحرة وخلابة، لكن ما عكر هذا الصفاء الريفي الطبيعي كان الغبار و الدخان الذي تنفثه السيارات الفاخرة و اللامعة و الدراجات النارية المزمجرة، هذه السيارات التي تتكاثر و تتوالد في هذه الفترة من السنة بأرقامها الأجنبية مع عودة مهاجري القرية من الخارج هذه السيارات التي تسيل لعاب الشباب و الأطفال الذين يتركون دراستهم و أعمالهم و يحبسون تفكيرهم و أنفاسهم كلما رأوا رقما أجنبيا على سيارة. وصلت إلى حقل مترامي الأطراف ممتد على ضفتي النهر يحده من الجهة الغربية غابة من الزياتين تبدو و كأنها تحتضنه و كانت فيها فسحة واسعة نسبيا ظهرت لي على أنها مأوى سيارات، و فيها كان يدور كل شيء و كان الناس في حالة استثنائية من النشاط أما أصحاب السيارات كانوا قرب سياراتهم بنظاراتهم الشمسية لا يكلفون أنفسهم حتى النظر إلى هؤلاء البشر الذين يتصببون عرقا تحت هذه الشمس الحارقة، ظللت بعيد أبحث عن جهاد بين العمال إلى أن رأيته مع الحمالين لم أعرفه بسبب العمامة التي يغطي بها رأسه كان مع العمال الذين يحملون أكياس القمح التي تلفظها الآلة الحاصدة إلى الشاحنات الواقفة قرب الوادي. من حسن حظي لم أنتظر طويلا حيث أتم جهاد عمله و أقبل نحوي مهللا فقلت له:
ـ إنه فعلا عمل ممتع في هذا المكان الجميل...
لم يتركني أتمم كلامي و باغتني بقوله: دعك من هذا الكلام ومن فلسفتك التي لا تنتهي ألم تتغير؟ ألم تغير من عقليتك؟ يبدو أن الصحراء التهمت ما تبقى لك من عقل، أنظر إلى نفسك و إلى حالتك، و إلى ملابسك أحيانا أظن أنك تعمل مجانا، أنظر هناك إلى الأثرياء لا يوجد بينهم من درس مثلي و مثلك أنظر إلى صاحب الأرض قرب سيارته رباعية الدفع، هو أصعر مني بخمس سنوات كان يأتي لبيتنا لأدرسه و ها أنا اليوم أعمل عنده بعدما تحصلت على شهادتي الجامعية أما هو فقد اشترى له والده الذي يعمل بالخارج هذه الأرض بعدما انقطع عن الدراسة....
كنت أتابع ثرثرته و أنا مقدر لشعوره بالألم و الإحباط شأنه في ذلك شأن الكثير من حاملي الشهادات الجامعية الذين يعيشون حالة من البطالة لا يزيدها الزمن إلا تفاقما وقد حاول كل المحاولات للبحث عن عمل حيث عمل في البناء و في المقاهي و المطاعم و لم يتمكن من الاستقرار في أي من هذه المهن بسبب الإنهاك الناتج عن سنوات الدراسة الطويلة. بعدما أنهى ثرثرته اقترب مني و كان يتصبب عرقا و يلهث من شدة التعب و الإرهاق سلمنا على بعضنا بحرارة و ذهبنا إلى المقهى في وسط القرية كي نتجاذب أطراف الحديث فاتخذنا مكاننا في ركن يمكنني أنا خاصة من الاستمتاع بمناظر الحصاد و الأجواء الصيفية التي لم أرها منذ مدة، ظللنا صامتين إلى أن أقبل علينا شاب آخر من أبناء جيلنا لم أكن أحتمله منذ أيام الدراسة نظرا لغروره و ثقل ظله، ألقى بهاتف جوال و نظارات على الطاولة و ألقى بجسده على الكرسي قائلا :
ـ أهلا جهاد و رفيقه ماذا تفعلان هنا وسط الغبار و مع الدواب كل الناس ذهبت إلى الشواطئ و المناطق السياحية للاستمتاع بالصيف، ما هذا الشح ماذا تفعلون بالأموال،أنت يا جهاد تعمل طوال العام أفضل مني لم أتحصل على هذه الوظيفة التعيسة إلا بعدما دفعت أربعة ملايين فكيف لي أن أعوضها ؟ لقد ندمت على ذلك، كان من الأجدر بي أن أدفعها لأحد الوسطاء و السفر إلى أوروبا لو سافرت لكنت من أصحاب الملايين.
كنت أسمع كلامه بامتعاض ولم أكن أرغب في الدخول معه في نقاش لكني كنت مجبرا على إجابته لأني أحسست أن كلامه موجه لي فقلت له:
ـ أرجوك لا تقل كلمة "لو" فما فات قد فات أما بالنسبة للشواطئ فأنا منذ صغري لم أتعود الذهاب إليها و المادة لا يمكنها أن تبدل عاداتي.
تجاهل كلماتي و ظل يمزح مع جهاد أما أنا فكنت منشغلا بالطريق المزدحم بالسيارات إلى أن توقفت سيارة أمام المقهى ثم رست بجانبها أخرى أفخم و أجمل و نزل من الأولى شاب مع فتاة بملامح أوروبية و لباس صيفي غير محتشم ألفته القرية في فترة عودة المهاجرين و دخلا إلى المقهى بكل ثقة في النفس غير عابئين بنظرات كل من في المقهى و توجها إلينا مباشرة حيث كانا يريدان جهاد فحيانا الشاب بالفرنسية و تكلم مع جهاد بلغة مختلطة فهمت من خلالها أنه يريد أن يغير ديكور المنزل و يبحث عن عمال يجيدون الطلاء و لم يجد غير أخوا جهاد و هما أيضا اصغر منه و متخرجين حديثا و عوض أن ينظما إلى الطابور الطويل لانتظار وظيفة امتهنا مهنة الطلاء و الديكور.
أما السيارة الثانية فنزل منها شابا آخر عرفته من الوهلة الأولى رغم كثرة حليه و ملابسه الغريبة و شعره المتفرع كأغصان شجرة برية، تذكرت من خلاله أيام الدراسة و المعهد حيث كان مشاغبا و طرد ذات يوم من الفصل بسبب الغش في الامتحان فغادر المعهد إلى الأبد و هاجر بعد ذلك، أكيد هو جاء للمقهى بحثا عن عامل بناء و طبعا لن يجد غير شقيق جهاد الأكبر و هو متخرج قبل جهاد و يجيد البناء. و فعلا كانت توقعاتي في محلها فقد أقبل علينا بمشيته الغريبة و بشاشته المبالغ فيها و طلب من جهاد رقم هاتف أخيه و قال له بأنه سيدفع له أجره مسبقا و غادرنا بسرعة زاعما أن له مشاغل كثيرة.
خيم علينا سكون رهيب و بدأ القلق يستبد بنا حاولت أن أقول أي شيء فالتفتت إلى جهاد و قلت:
ـ هكذا هي مفارقات الحياة من كان مجتهد في أيام الدراسة أصبح اليوم ينتظر الهبات و الأموال من الذين كانوا يتكاسلون في دراستهم، بل و يعملون عندهم. و مع ذلك يبقى العمل شرف و العلم لا يقدر بمال.
نفخ صديقنا وانتفض من مكانه و تكلم بأسلوب ظاهره هزل و باطنه جد قائلا:
ـ أنا سأغادر الآن، و أرجوك يا جهاد في المرة القادمة لا تجلب معك صديقك المعتوه هذا الذي ذهبت الصحاري بعقله إلى المقهى كي لا يحدثنا عن النخيل و الرمال ، و لا يسخر منك بالحديث عن العلوم، فماذا نفعتك العلوم غير سنوات طويلة من التعب كانت نتيجتها أيام مضنية من البطالة دعك منه و ابحث عن شخص يتدبر لك طريقة للهجرة إلى الخارج أو ابحث عن أجنبية تتزوجك و تمكنك من أوراق الإقامة بأوروبا و تصبح من الأثرياء.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire