mardi 7 décembre 2010

نسمات باردة


كعادته يقبل علينا الشتاء في كل عام حاملا معه نسمات باردة و قطرات من المطر و الندى و كثير من الأمل و الفرحة إلى قلوب الفلاحين اللذين أضناهم الانتظار بعد أيام القحط و الجفاف، كما يحمل معه بعض المفاجآت و المصاعب خاصة اذا كانت أمطاره غزيرة، لذلك يعتبر الشتاء رغم جماله و صفائه الفصل الوحيد الذي يفرق بين الطبقات و الفئات الاجتماعية، فهو جميل وشاعري بالنسبة لمن يطل من بلور نافذة غرفة دافئة و مكيفة على حديقة مليئة بالأزهار الندية و الشجيرات المبللة و في ذات الآن هو مؤلم و قاس بالنسبة لمن تصطك أسنانه من شدة البرد في بيت سقفه متداع و لا يملك ما يحمي به نفسه من النسمات الباردة، هكذا اذا هو الشتاء يفرح البعض و يحزن البعض و هذا ما جرني لتذكر حادثة بسيطة حدثت معي ذات صبح شتوي بارد و في ما يلي تفاصيلها
كان الصبح باردا و الظلمة حالكة و الساعة تشير إلى الخامسة توقيت وصول الحافلة إلى قريتنا هذه الحافلة التي رجعت على متنها بعد رحلة مضنية دامت كامل الليل من مقر عملي كي أقضي اجازة مع العائلة، و لم يبق لي من تلك الرحلة الطويلة سوى مسافة لا تتجاوز كيلومترين أنا مضطر لأن أقطعها سيرا فما كان مني وقتها إلا أن أتحمل شدة البرد و ثقل الحقيبة و أقطع ذلك الشوط الأخير إلى بيتنا الذي اشتقت له. أعرف مسبقا بحكم تكرر هذا الأمر معي أنني سأجد في هذا الظلام الدامس وسط هذا الموت النسبي حياة من نوع خاص لقريتي التي أبى أهلها إلا أن يبدأوا حياتهم قبل باقي البشر في كل يوم و مهما كانت الطبيعة قاسية، لأنهم بكل بساطة يحملون بين ظلوعهم قلوبا مليئة بالتحدي لكل الصعاب و الظروف القاسية، و فعلا قد كان المشهد على النحو الذي تخيلته حيث مع اقترابي من بيوت الفلاحين و بساتينهم بدأت تبرز بعض الدراجات و السيارات متجهة نحو الحقول، كما أن الناس بدت لي و كأنها أشباح و هذا راجع لشدة الظلام من ناحية و سرعة حركتهم من ناحية أخرى، فأوحى لي ذلك المشهد بذكريات عن أمي في عز شبابها لما كانت تعمل من أجلي في الحقول و تخرج في ذلك التوقيت و تتركني دافئا مطمئنا حيث كنت أصحوا لأجدها أعدت لي الخبز و الموقد و ملابسي و محفظتي، وقتها لم أكن أتخيل شدة هذا البرد رغم أني كنت أخرج معها أيام العطلة الشتوية.
ظللت أشق المنعطفات و المنحدرات وسط تلك المواكب المهيبة للناس الطيبين الكادحين الذين يقتلعون لقمة عيشهم بمعاولهم و بأياديهم التي لا تمنعها المياه الجامدة و لا التربة الندية الباردة عن الزرع و الحرث، و بينما أنا أسير في تلك الدروب و الفكر شارد في ذكريات الصبا و الطفولة مرت أمامي امرأتان يبدوا أنهما خرجتا من احدى المفترقات و رغم أني لست من هواة التصنت فقد أرغمتاني على التجسس عليهما بالتحدث بصوت مرتفع، حاولت أن أبطئ خطواتي كي يبتعدا لكنهما ابتعدتا و ظل صوتهما قريبا حيث أسمع ما تقولانه
سمعت الأولى تقول:" لقد تركت البيت فارغا و الأثاث مبعثرا و زوجي لما يعود من العمل سوف بن يجد ما يأكله أما الثياب و الأواني الوسخة فهي تتراكم علي كل يوم، و ابني لما يعود من المعهد سوف يلقى نفس ما لقيه أبوه,"
فأجابتها الثانية:" أنا مرتاحة البال فابنتي تقوم بكل شؤون المنزل و أنا أعمل في مزرعة البطاطا منذ شهر و في الشهر القادم فسأبدأ في عمل آخر فموسم الخضر على الأبواب، لكن أنت بما أنك لا تجدين من يساعدك في شؤون بيتك فلماذا كل هذا التعب و التشتت، انتظري على الأقل العطلة حتى يساعدك ولدك".
لم تكد تلك المرأة تكمل كلامها حتى فاجأتها رفيقتها بصوت حاد اهتزت له تلك الأرجاء الهادئة قائلة: "ماذا تقولين؟ !! العطلة لا. يجب أن أعمل هذا الشهر مهما كلفني ذلك فقبل العطلة هنالك امتحانات و علي أن أوفر لولدي معلوم الدروس الخصوصية."
دونما أشعر بدأت خطاي تتسارع قصد اللحاق بالمرأتين لسماع المزيد من هذا الحوار المثير و التجسس عليهما لكنني فجأة وجدت نفسي أمام المنعطف الأخير المؤدي إلى بيتنا فتركت ثرثرتهما الصباحية لكن كلام تلك المرأة عن الدروس الخصوصية ظل يرن في رأسي لتتدفق على مخيلتي عدة تساؤلات دفعة واحدة أفسدت فرحتي بالعودة للبيت، تساؤلات عما وصل له الإنسان من طمع و جشع و حب للمال و استخفاف بآلام الناس و أوجاعهم، تساؤلات عن الثمن الذي صار يباع به العلم و الدروس التي تتلقاها التلامذة في المدارس و تدفع الدولة ثمنها للأساتذة أجورا ضخمة متأتية من ضرائب تعتبر تلك الحقول و المزارع من أهم منابعها، أتسائل كيف يتسبب طمع أستاذ مستهتر لا تمثل كلمة أستاذ في معناها السامي لقبا حقيقي له و لا مهنة هو جدير بها أو في مستوى ممارستها في عذاب تلك المرأة العاملة في الحقول و خروجها في ذلك الصبح البارد تاركة بيتها وزوجها بلا عناية و لا طعام لتوفر له ثمن دروس تدارك قد تقاضى أجرها أيام العمل و أيام العطل، ألهذا الحد انحصر تفكير المدرسين و المربين في جمع ثمن السيارة الفاخرة و المنزل الفخم حتى و ان كان مصدر ذلك الثمن طفل فقير معدم يشقى والده تحت أشعة الشمس في حضائر البناء و تدمى يد أمه في الحقول أيام الصقيع، ألم يكن أحرى بهؤلاء تقديم المعلومة للتلميذ بالطريقة التي يفهمها ان كانت له رغبة في ذلك دون اللجوء إلى ربط النتائج و الأعداد المسندة بعدد ساعات الدروس الخصوصية و دون اعادة تمارين حصص التدارك في الامتحانات حتى تكون نتيجة الذي حضر هذه الحصص و دفع طبعا ثمنها أفضل من الذي لم يحضرها و لم يدفع ثمنها بغض النظر عن الفارق الحقيقي في المستوى و الكفاءة.
أعتبر شخصيا أن لهذه الأساليب الملتوية في التعليم آثارا سلبية على المستوى التكويني للتلميذ و هذا ثابت و أكيد رغم أني غير قادر على الخوض في هذا الجانب بحكم عدم المامي به، أما الآثار السلبية على المستوى الاجتماعي و المادي و الأخلاق فليس أدل من مثال تلك المرأة و ما أجبرها على الذهاب للعمل في ظروف صعبة و قاسية على بشاعة هذه الممارسات التي يقترفها للأسف أفراد ينتمون إلى مهنة هي الأشرف و الأرقى و الأسمى على مر التاريخ وهي مهنة التعليم، و كم هي المهن التي أساء إليها أبنائها و كم من عائلة شريفة مشهود بأمجادها أوقعها ولدها العاق في أوضع منزلة، من هذا المنطلق يمكن اعتبار من يسترزق بأساليب ملتوية من دروس التدارك ولد عاق وجب ردعه و دعوته إلى القناعة و تحصيل ثمن السيارة بحسن التدبير لا بتبذير الأموال فيما لا يعني من متع زائفة و تعويض ذلك من جيوب تلاميذ فقراء، و دعوته إلى الابتعاد عن الممارسات الوضيعة التي بقدر ما تسببه من خسائر مادية بقدر ما تنزل من مكانة و هيبة المربي أمام أبنائه خاصة و قد أصبحنا وسط عالم مفتوح الكل يرى الكل و الخبر ينتشر عبر شتى الوسائل، و دعوته إلى أن يكون مثالا يحتذى به لأنه أحب أم كره فتلك خصوصية مهنته التي لا يمكن أن تكون إلا بذلك الشكل و الأنموذج.
ليس من العيب أن تشقى أم من أجل ولدها أو ان تعمل في حقل في طقس صعب و ظروف قاسية لأن العمل شرف و عزة و كرامة و تلك الحقول و المزارع و البساتين هي أصلنا و حياتنا و سبب وجودنا و بها نحقق الازدهار و الرقي لقرانا و بلدنا، لكن مع ذلك يجب على الناس أن تراعي بعضها و أن تحس بآلام بعضها و تتضامن مع بعضها لأن التضامن ليس مجرد كلام أو شعارات./.

1 commentaire: