لحظة تأمل بين الوهم و الحقيقة
لن أنصب نفسي مصلحا اجتماعيا أو مفكرا لكن بعض التساؤلات ظلت تنهش فكري ووجداني و أحسست بأشياء جاثمة على صدري وصرت أبحث عمن يصغي إلي و يشاركني هذه الانشغالات عساه يكون نقطة ضوء تنير الدروب و مجداف أمل ينقذني من الغرق في بحر اليأس لهذا أدعوك عزيزي القارئ الى:
تابعت منذ أشهر في بعض القنوات الإخبارية تقارير أممية حول الواقع الاقتصادي في العالم العربي الذي يجلب اهتمام العديد من القوى الاقتصادية الفاعلة في العالم اليوم رغم الصعوبات و الهزات و هذا راجع طبعا لأهمية الثروة النفطية و الخصوصية البشرية المتمثلة في أن فئة الشباب تمثل النسبة الأكثر من السكان، في هذه التقارير كانت الأرقام مفزعة و تدعو للحيرة و التأمل فنسبة 40% من العرب يعيشون تحت خط الفقر أي 140 مليون نسمة إضافة إلى ذلك في سنة 2020 مختلف الدول العربية مطالبة بتوفير 50 مليون موطن شغل، كل هذه المؤشرات و الأرقام تنبأ بأزمة اقتصادية وشيكة في كل الدول العربية بما فيها تلك التي تبدو غنية، هذه الأزمة لن يزيدها الوقت الا تفاقما و بالتالي فان نواقيس الخطر تدق بشدة في أرجاء المنطقة العربية لكن السؤال المطروح هنا هو من يسمع هذه النواقيس ؟
الإجابة عن هذا السؤال لا تتطلب الكثير من التفكير لأنها واضحة و بديهية فالحكومات العربية بأسرها مطالبة بوقفة تأمل و الانتباه لهذه الحقائق الخطرة، لكن المتمعن في الواقع السياسي و الإعلامي العربي يمكنه أن يستنتج أن الحكومات العربية ووسائل الإعلام الموالية لهذه الحكومات لن تجلب اهتمامها هذه الأزمات و الهزات، و لنبدأ أولا بوسائل الإعلام بشتى أنواعها ففي كل الدول العربية من المحيط إلى الخليج تطلع علينا التلفزات و الإذاعات و الصحف بأرقام وهمية و نجاحات خيالية إضافة إلى تصنيفات تقوم بها منتديات و مؤتمرات لا تتمتع بالنزاهة و المصداقية و لا تكتسي هذه المنتديات أي صبغة رسمية و الدليل على ذلك واضح لأنها مثلا تصنف تونس قبل ايطاليا من حيث البنية التحتية للاتصالات أو تصنف الإمارات على أنها الأولى عالميا من حيث جودة الحياة و هي تصنيفات لا تمت للواقع و المنطق بأي صلة ، أضف إلى ذلك عقلية التعتيم السائدة و التي تنخر الإعلام العربي المبني على الخوف و النفاق و المصالح المادية الضيقة حيث تفنن هؤلاء الإعلاميين في تزييف الحقائق و التكتم على الأزمات والكوارث و تحويلها الى انجازات واهية و الأمثلة على ذلك كثيرة، زيادة على ذلك تتعمد وسائل اعلام عربية في بث البلبلة في دول عربية أخرى عن طريق التهويل و الاثارة و اللعب على عواطف المشاهد البسيط الذي ينساق وراء كل ما هو مثير و مشحون ، و المشاهد أو المستمع أو القارئ معذور نظرا لمحدودية حريته داخل وطنه أولا ثم لغياب الحقائق و الوقائع عن المشهد الإعلامي الذي يعيشه يوميا ، فماذا عساه يفعل مواطن يشاهد في كل نشرة أخبار و في كل برنامج اذاعي و في كل صحيفة مهرجانا من المدحيات و الانجازات و النجاحات التي قد تكون حقيقية و قد تكون موجودة و تم تضخيمها و قد لاتكون موجودة أصلا، ماذا عساه يفعل المواطن الذي لم يشاهد و لم يقرأ و لم يستمع و لو مرة الى أشياء أو أحداث سلبية تحدث في بلده هل يصدق و يقتنع أنه يعيش داخل مدينة فاضلة أم يلتجئ الى مشاهدة شاشة أخرى مهمتها ابراز السلبيات و طبعا حسب ميول هذه الأخيرة التي تلتهم أفكار الناس و تخدر عقولهم و تزيد فيهم الإحساس بالإقصاء و التهميش، و لا يمكن هنا طبعا أن لا نذكر تلك القنوات التي تطلع و تتكاثر كالفقاقيع مهمتها الوحيدة الترويج للتفسخ الأخلاقي و الانحطاط و يكون ذلك بطرق و أساليب تجارية ذكية و مدروسة و ذلك عن طريق الكليبات الخليعة و الأفلام الرديئة اضافة الى المنوعات التي تشجع الناس على التواكل و الربح السريع و النجومية الكاذبة، و في نفس السياق تندرج مهمة القنوات الرياضية التي شغلت الأمة العربية دون غيرها فصار العرب يتابعون و بشغف كل بطولات العالم و لعل من أبرز الأمثلة على ذلك ما شاهدته ذات مرة من احتفالات بالعاصمة الأردنية أو حتى بالدار البيضاء بمناسبة فوز فريق برشلونة الذي لا ينتمي لأي بلد عربي و لا ينتمي له أي عربي، و أصبحت الكرة تشغل تفكير الشباب العربي و تم تهويل الأمور الى أن صار التأهل لكأس العالم انجاز وطني و نصر قومي بل أكثر من ذلك غدا لدى الرأي العام العربي الفوز في كرة القدم مؤشر تقدم و نجاح فان كان ذلك صحيح فأين اذا كندا وأين فنلندا و أين سنغفورة و أين تايوان و أين هونغ كونغ و أين السويد و أين...كلها دول غنية و متطورة حققت مجدها بالعمل و العلم و ليس بكرة القدم هذه الرياضة التي لا ينكر أحد شعبيتها هذه الشعبية التي تستغلها الدول الأوروبية لتنويع الاقتصاد و ترويج الماركات العالمية فيما يتم استغلالها في العالم العربي من قبل الحكومات لشغل الناس و إلهائهم عن قضاياهم الرئيسية ومشاكلهم الحقيقية و هذا يجرنا للحديث عن الحلقة الثانية و الأهم المتسببة في هذا الواقع الاقتصادي المتردي و هي الحكومات العربية.
كملاحظ عادي و دون الخوض في التفاصيل السياسية الدقيقة التي يتطلب التطرق اليها خبراء سياسيين و محللين متمرسين، يمكن ملاحظة عدة ظواهر بادية للعيان و يعيشها المواطن العربي من المحيط الى الخليج بل و يتعايش معها و لعل من ابرزها التمسك بالسلطة بل وحتى توريثها هذه الظاهرة التي تعتبر الميزة و القاسم المشترك لدى كافة الدول العربية بما فيها تلك التي تستثني نفسها من النظام الملكي فقط على الورق، وفي هذا الصدد دون ذكر الأمثلة نجد أقدم رؤساء والملوك على وجه الأرض هم من العرب، و على صعيد آخر نلاحظ أن الاستبداد و القمع يمثلان الشعار الوحيد لدى كافة الدول العربية التي تحد من حرية الفرد في التعبير عن رأيه سواء بالرفض أو بالرضا اضافة الى محاصرته فكريا و تشديد الرقابة على كل حركاته و سكناته زد على ذلك ردة الفعل العنيفة التي تتفنن فيها قوات القمع على كل تحرك شعبي أو تظاهر و هنا لا يمكن استثناء أي بلد عربي بحكم تفرد البلدان العربية في هذه الظاهرة، و لعل أبرز مثال على ذلك ما حدث في شمال اليمن من تدخل قوي و عنيف من القوات اليمنية من جهة و القصف الجوي السعودي من جهة أخرى، و شخصيا لست ملما بالكواليس السياسية لهذه القضية لكن مهما كانت الأسباب و مهما كانت الجهات التي تدعم الحوثيين و مهما كانت توجهاتهم و القوى التي تحركهم لا أظن أن الأمر يتطلب تدخلا يمنيا عنيفا و استعراض سعودي للعضلات كان الأجدر أن نجده في مناسبات أخرى و ضد عدو آخر أكثر جدية و أكثر خطر و النتيجة كانت ضحايا أبرياء لا ناقة لهم و لا جمل في كل ما يحدث، و هل سأل اليمنيون أنفسهم عن أسباب تغلغل مثل هذه الحركات في تلك المناطق دون غيرها، قد تكون الأسباب كثيرة ومعقدة و يصعب فهمها و تحليلها لكن السبب الواضح و الأبرز هو الواقع الاقتصادي و الاجتماعي المتدهور لهذه المناطق التي تفتقر الى أدنى مرافق العيش الضرورية أما المفاجأة الأهم و الأشد وقعا هي الصورة المزرية و الوضعية السيئة لتلك القرى السعودية المتاخمة للأراضي اليمنية هذه المفاجأة التي أعادت للأذهان صورة أبراج الرياض الشاهقة و طرقات جدة الشاسعة و السيارات الفاخرة و أظن أن ثمن طائرة واحدة من طائرات السوخوي كافية لحل مشاكل الناس في تلك المناطق النائية،
لقد اخترت هذين المثالين عمدا لأنهما يبرزان كذلك قاسم مشترك آخر اتفقت عليه الأنظمة العربية دون استثناء ألا وهو التمييز بين الجهات و المناطق حيث تحضى العواصم و المدن الكبرى التي ينتمي لها عادة كوادر السلطة و الملوك في كل دولة و مملكة عربية بثمار التنمية و بالمشاريع الكبرى و الجامعات الكبرى فيما تضل المحافظات الأخرى تعاني الفقر و يعاني أهاليها و شبابها الاقصاء و التهميش و الازدراء من قبل بقية سكان المناطق الثرية مما يولد نوعا من الشعور بالنقص لدى الفئات الضعيفة و هذا باب من أبواب العنف و التمرد و الانحراف.
قد يقول القارئ ما الذي يهمنا نحن في كل هذا و قد يستغرب عن الداعي للحديث بصيغة الجمع عن الدول العربية، أظن أن الأمة العربية و رغم تشتتها اليوم فان ما يجمعها أهم و أقوى من عوامل هذا التشتت فالدين واحد و اللغة واحدة و المشاكل واحدة و القضية واحدة و هي القضية الفلسطينية مهما حاول الجميع التملص منها تبقى قضيتنا الجوهرية و حرية غزة و عودة اللاجئين و استرجاع الأراضي المغتصبة هي مسؤولية كل عربي و كل مسلم. لئن كان الجرح الفلسطيني هو الأعمق و الأكثر ألما فان الجسد العربي يعاني جروحا أخرى تنتظر من يضمدها ونذكر منها على سبيل الذكر العراق والصومال و السودان واليمن، كي لا أختم بالجراح و الألم أتمنى أن يأتي يوم تندمل فيه كل الجراح و تعود الابتسامة لكل طفل عربي و كلي أمل في الطاقات الشبابية العربية الواعدة التي ستغير الأمور نحو الأفضل و تصلح ما أفسده السابقون و تحافظ على الانجازات و المكاسب التي تحققت في هذا الوطن العربي العزيز علينا و الالتزام بتعاليم ديننا الإسلامي الحنيف الذي يبقى مصدر عزتنا فخرنا.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire